المجتمع المدني في قلب التحولات الاقليمية
السيدات والسادة، الزميلات والزملاء، الصديقات والاصدقاء
تحية
وبعد
بداية
اسمحوا لي أن أتقدم بجزيل الشكر لتلبيتكم دعوة "شبكة المنظمات العربية غير
الحكومية للتنمية" لهذا المنتدى الذي يأتي في سياق التحضيرات للجمعية
العمومية السنوية والتي ستنعقد لاحقا للاضاءة على التحديات والادوار المحتملة
للمجتمع المدني واقرار استراتيجية للسنوات الاربع القادمة في ضوء هذه التحديات،
وباسمكم ان اشكر القيمين على معهد عصام فارس لاتاحة المكان لنا لتنظيم هذا اللقاء.
المجتمع
المدني في قلب التحولات الاقليمية، هو العنوان الذي اخترناه لهذا المنتدى الاقليمي
للمجتمع المدني،
ينعقد
المنتدى في ظل أحداث خطيرة وتحولات كبيرة تطرأ على الواقع الجيوسياسي للمنطقة نشهد
فيه على تدخل قوى دولية وإقليمية كأني بها حرب كونية تُخاض في المنطقة من أجل
السيطرة عليها وعلى مواردها الطبيعية في حين يفقدُ سكانُها قدرتهم على التأثير في
مسار الاحداث ومجرياتها وفي قرارات اللاعبين الاساسيين.
أذكر
انني دعيت في اوكتوبر عام 2008 الى ندوة اقليمية من تنظيم هنريخ بل ومركز كارنيغي حول
"تحديات المجتمع المدني في ظل نهوض قوى جديدة مؤثرة في المنطقة" من
الصين وروسيا وتركيا وايران والهند، وقد نُشرت وقائع الندوة في العام 2010. وطُلب
مني حينها التحدث عن تحديات ودور المجتمع المدني في ظل هذه التحولات، فأشرت الى التحديات
التي يواجهها المجتمع المدني في حينه بدءا بالاوضاع السياسية المعقّدة بعد احتلال
العراق عام 2003 وانطلاق الحرب على الارهاب، والأبعاد المتعددة للنزاعات المحلية
والاقليمية وفقدان الأمن والاستقرار. وأضفت الى هذه التحديات الواقع الذي يواجهه
المجتمع المدني على المستوى الوطني جرّاء شمولية الانظمة شديدة المركزيّة
والممارسات القانونية المقيّدة وتأخّر مؤشرات التنمية وتخلّف العلاقات والروابط
الثقافية التقليدية.
إلا أن
الورقة التي اعددتها بالشراكة مع زميلتي كندة محمدية أشارت بوضوح إلى عوامل عديدة
تُنبئ بنهوض المجتمع المدني والحركات الاجتماعية لإحداث التغيير المنشود، من بينها
الإنخراط في الحركات الدولية من أجل عولمة بديلة وعلى رأسها المنتدى الاجتماعي
العالمي والمشاركة في التحركات حول منظمة التجارة العالمية وحول مجموعتي الدول السبعة
والدول العشرين (وقد نشأت على أثر اندلاع الازمة المالية والغذائية والمناخية
العالمية) والمؤسسات المالية الدولية. ومن المؤشرات الايجابية أيضاً تقرير التنمية
الانساسية العربية الصادر عام 2002 عن البرنامج الانمائي للأمم المتحدة وقرارات
قمة جامعة الدول العربية في تونس عام 2004 والتي اعترفت بأهمية تعزيز الديمقراطية
ودور المجتمع المدني والأحزاب السياسية بالتنمية. ترافق كل ذلك مع التحولات
السريعة في السياسات الاقتصادية والنمو السكاني والحركة السكانية نحو المدن. ما دفع
بالمجتمع المدني الى تطوير دوره من التضامن الاجتماعي والسياسي وتوفير الخدمات الى
المشاركة الفاعلة في السياسات العامة أو التاثير بها. بالفعل لم يتأخر الربيع
العربي الذي كانت تباشيره تبدو في الحركات الشعبية والمدنية في المغرب وتونس ومصر
والسودان والجزائر ولبنان واليمن وغيرها........
أين نحن
الان من كل ذلك؟
تشهد المنطقة منذ أواخر العام
2010 مرحلة إنتقالية إنطلقت شرارتُها من تونس وسرعان ما انتشرت في المنطقة. نجحت
في أماكن (تونس) وشهدت ثورة معاكسة في أماكن أخرى (مصر) ولم يكتب لها النجاح
أحيانا (المغرب) وتحولت الى كوارث أحياناً أخرى (سوريا، اليمن، ليبيا). كما شهدت
المنطقة الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي أواخر العام 2018 والتي انطلقت تباشيرُها
من الجزائر قبيل الانتخابات الرئاسية. وأستعرت في العام 2019 على المستويين الدولي
والاقليمي، مع إنطلاق الحركات الاحتجاجية عبر العالم من آسيا (هونغ كونغ) وأميركا
اللاتينية الى إفريقيا وصولا الى المنطقة العربية رافعةً مطالب مشتركة تحت العنوان
عينه: محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا إن عبّر عن شيء فإنه يعبّر
عن فشل السياسات النيوليبرالية المتوحشة والتقشف وهيمنة النظام المالي العالمي وحركة
رؤوس الأموال وقيام الجنّات الضريبية وانتشار التهرّب الضريبي. هذه الظاهرات فاقمت
الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وزادت من تمركز الثروات بيد الـ1% وأدّت الى تدهور
أوضاع أكثر من 60% من السكان.
يترافق ذلك مع تعميم الانتهاكات
الممنهجة لمنظومة حقوق الانسان وللقانون الدولي. فالاطراف القوية دولياً او
إقليمياً تعتمد سياسة القوة الفجّة في العلاقات الدولية الديبلوماسية والاقتصادية
والاجتماعية لفرض شروطها على الأطراف الأخرى، سواء كان ذلك من خلال الحرب التجارية
المتسلحة باجراءات سياسية او ادراية، او من خلال التدخل العسكري المباشر في شؤون
دول أخرى وإثارة النزاعات.
وبدورها، تعاني المنطقة
العربية من الفجوة العميقة بين بلدانها وداخل كل دولة، وهي من أكثر المناطق
التي تنتشر فيها اللامساواة حيث أغنى 10% من السكان يملكون 62% من الثروة. وهذا
ناتج عن عدم تساوي الفرص بين المواطنين في الوصول إلى الخدمات العامة لاسيما فرص
العمل اللائق نتيجةً للعجز المؤسساتي والضمور البنيوي الذي تعاني منه (الاسكوا).
لذلك لم يكن مستغرباً أن يشهد
عام 2019 إنطلاق الموجة الثانية للربيع العربي من الجزائر حيث نجح الشعب في
الاطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة بما اطلق مسارا متعرجا ومعقدا وملتبسا نتيجة
الدور الرئيسي الذي ما زالت القوات المسلحة تلعبه في العملية الانتقالية، ولكنه
مستمر بثبات. وفي السودان حيث نجحت الثورة السلمية بالإطاحة بالرئيس والتأسيس
لمرحلة انتقالية بقيادة مجلس مشترك بين قيادة القوات المسلّحة وممثلين عن الثورة.
على الرغم من تحقيق هذين الانجازين إلا أن العديد من التحديات لا زالت تعتري هذه
الدول على طريق بناء الديمقراطية والدولة العصرية التي تليق بطموحات شعوبها، أيضا
بسبب الدور الذي تلعبه القوات المسلحة والذي لا يخلو من تباين – ان لم نقل تناقض –
مع طموحات القوى المدنية في السودان كما في الجزائر.
وفي هذا المجال يأتي حراك
الريف في المغرب في سياق الحراكات الشعبية من أجل التغيير السياسي والإجتماعي،
ورغم القمع لا زال مستمراً. وفي السياق نفسه تأتي التحركات في الاردن التي تصدت
لقوانين الضريبة والعمل والحماية الاجتماعية غير العادلة، والصراع مستمر.
أما الأوضاع في لبنان والعراق
فهي متشابهة ومترابطة الى حدّ بعيد، حيث كان للأزمة الجيوسياسية والصراعات بين
المحاور الاقليمية وامتداداتها الدولية انعكاسات خطيرة على الاوضاع السياسية والاقتصادية
والاجتماعية في كلا البلدين، لاسيما أن طبيعة الأنظمة السياسية فيها تقوم على أسس تحاصص
غنائمي سياسي – مذهبي، وحيث تهيمن آليات إتخاذ القرار من خارج المؤسسات الدستورية،
ما يُضعف مناعتُها ويضاعف هشاشتها وقدرتُها على تجاوز الأزمات. وهي أنظمة لا تسمح
بالمشاركة الفاعلة للمواطنين وتعيق آليات المكاشفة والمساءلة والمحاسبة. فضلاً عن تأزّم
النماذج الاقتصادية المتبعة فيها حيث تقلّصّ الإنتاجُ في القطاعات الأساسية نتيجة
النزاعات والتوتر والتدخل الخارجي في العراق والاتجاهات الاقتصادية والسياسات
المالية والنقدية في لبنان، وانتشار ظاهرة الفساد الهيكلي والزبائنية والمحسوبيات
في التوظيفات والتلزيمات واحتكار أسواق السلع الأساسية. يُعطف على كل ذلك ضُعف
أدوات إعادة التوزيع من سياسات ضريبية عادلة وأنظمة للحماية الاجتماعية الشاملة
وسياسات عادلة للأجور، كل هذه العوامل أدّت إلى تزايد التفاوت الاجتماعي على مختلف
المستويات، والى انفجار دوري لأزمات سياسية ومؤسسية حادة.
كما كان للأزمة السورية إنعكاسات
خطيرة على الداخل العراقي واللبناني مهدّدة الإستقرار والسلم الأهلي فيها نتيجة الطبيعة
الهشّة للأنظمة والإنقسامات السياسية. ففي لبنان أدّت الأزمة السورية الى إغلاق
الحدود البريّة مع الاردن وهي الممرّ الإلزامي للسلع اللبنانية باتجاه الخليج فضلاً
عن تنامي عمليات التهريب من وإلى سوريا بالاضافة إلى تدفّق اللاجئين والذي تعدّى خُمس
عدد السكان. يُضاف الى كل ذلك، عوامل سياسية مرتبطة بالأزمة السورية أدّت إلى تأزيم
العلاقات بين لبنان ودول الخليج، المساهم الأكبر في دعم الاقتصاد من حيث
الاستثمارات المباشرة والودائع المصرفية والاستثمارات العقارية والمساعدات
والسياحة بالاضافة الى تحويلات اللبنانيين.
ومع بداية هذا العام اعلن "الراعي
الامريكي لمفاوضات السلام في الشرق الاوسط" وشريكه رئيس وزراء "العدو"
عن صفقة القرن من طرف واحد ويدعوان الفلسطينين ودول الجوار إلى الإنضمام الى
الصفقة للحصول على مبالغ من المال تناهز الخمسين مليار دولار. بغضّ النظر عن
الشكل، فان هذه الصفقة، ولدت ميتة لأنها تحمل أسباب فشلها في تكوينها، ولكن تداعياتها
خطيرة على أمن واستقرار المنطقة لما ستستدرجه من توتّر في الأراضي المحتلة ومن ضغوطات
سياسية واقتصادية على الدول التي سترفض الانخراط فيها. وهي صفقة لا يمكن الموافقة
عليها لأنها تحرم الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقه الإنسانية وعلى رأسها الحق في تقرير
المصير وإقامة دولته المستقلة والحق بالتنمية والعيش بسلام وأمان ورفاه. كما تحرم
فلسطينيي الشتات من حق العودة وهذه حقوق نصّت عليها كل المواثيق والشرع الدولية
وجاءت في قرارات الامم المتحدة، الشرعيّة الدولية الوحيدة في العالم.
بالاختصار فان المنطقة تمرّ بأصعب
الظروف من إحتلالات ونزاعات مسلحة وأزمات إقتصادية ومالية وسياسيّة وتدخلات
خارجية، وهي فوق كل ذلك تتعرض لضغوط المؤسسات الماليّة الدولية التي تتدخل للمساعدة
كشرط من قبل الجهات المانحة طالبةً
تعديلات بنيوية في السياسات العامة غير آخذة بالاعتبار حقوق الانسان. وقد جاء في
تقارير كثير من المنظمات الدولية والاقليمية والوطنية لحقوق الانسان الشواهد
والاثباتات على الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان التي يتسبب بها تطبيق سياسات هذه
المؤسسات وكما جاء ذلك في تقارير المقررين الخاصين لحقوق الانسان (لاسيما في مصر
وتونس).
في المقابل لا زالت الانظمة
والحكومات تتعامل مع هذه الازمات الوجودية بشيء من التجاهل إذ لا تعطي أي إشارة الى
النية في الاصلاح خدمة لشعوبها وتحسينا للظروف المعيشية، لا بل تأتي تقاريرها إلى
المنظمات الدولية في محافلها عكس ذلك، كما في المراجعات الدورية الشاملة لحقوق
الانسان أمام مجلس حقوق الانسان في جنيف وفي التقارير الوطنية الطوعية حول سياسات
التنمية المستدامة أمام المنتدى السياسي رفيع المستوى في الامم المتحدة في
نيويورك. لا بل تتوجه هذه الحكومات الى المؤسسات المالية الدولية بكل خضوع أمام
شروطها فلا تقيم لحقوق الانسان أي اعتبار لاسيما الحق في العمل اللائق والحماية
الاجتماعية والاجور العادلة والانظمة الضريبية العادلة وخصخصة مؤسسات القطاع العام
من دون أي دراسات جدوى أو قدرة على مراقبة أداء القطاع الخاص خاصة اذا كان من
المحسوبين على الشركاء في السلطة.
في الخلاصة، لقد وقعت المنطقة
في السنوات الماضية بين سندان الأزمات الخانقة والحكومات المستبدة والفاسدة من جهة،
والشروط القاسية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية من جهة ثانية، والتحول في
السياسة الدولية عن معايير حقوق الانسان واحترام القانون الدولي الى عسكرة العولمة
وطغيان المقاربة الأمنية على حساب الحقوق كلها بما في ذلك الحق في التنمية.
ولعل أخطر ما تواجهه شعوب البلدان العربية والمجتمع
المدني فيها هو ما يكاد يصل الى مستوى الخروج الكامل على مبدأ علويّة القانون واحترام الدستور في معظم
البلدان، بما يجعل هذه الدول دولاً فاشلة أو دولاً مارقة من منظور التوازنات
الدولية،
مع ذلك فإن إنفجار الغضب
الشعبي يشي بالكثير من الآمال بأن تكون كلمة الشعوب في القادم من الأعوام مسموعةٌ
وإرادتها تتحقق تدريجياً باتجاه بناء الدولة المدنية العصرية والديمقراطية
الدستورية، والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان والمواطنة، والإلتزام
بالقانون الدولي وصيانة السلام الدولي والتوقف عن سياسات التدخل الامبراطوري الذي
يذكر بعصور انقضت الى غير رجعة.
Comments
Post a Comment