الثورة في مواجهة الثورة المضادة
زياد عبد الصمد
ناشط سياسي ومدني
هل هي صدفة أن تتزامن الغزوات
الغوغائية على ساحات الإعتصام مع تأجيل الإستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس
للحكومة؟
بالفعل، لقد تزامنت الغزوات
الغوغائية مع احتدام التناقض بين أقطاب الحكم وفشلهم في الاتفاق على تركيبة وزارية
تحافظ على المحاصصة ولكن كلّ من موقعه؛ فمنهم من تمسّك بالتسوية الرئاسية المشؤومة
لأنها وسّعت نفوذه ومنهم من أراد الخروج منها لأنها ضيّقت عليه.
إن فشل المحاولة الثانية
لاجراء الاستشارات النيابية الملزمة دستوريا إنما يعبّر عن تأزّم العلاقة بين أطراف
السلطة على مستويين: أولا على مستوى عمق الانهيار الذي وصلت اليه البلاد وبلوغه
مراحل متقدمة باتت معها المعالجات التقليدية التي جرت العادة على استخدامها غير
كافية، وكلّما تأخر الحل كلّما ازدادت الامور تعقيدا، وفقدان ثقة أطراف المحاصصة
المذهبية والحزبية فيما بينهم بعدما عبّرت عنها مواقف كل أحزاب السلطة. إن فشل
التسوية الرئاسية دفع بهم إلى الاتفاق على التأليف قبل التكليف. لا بل تذهب خلافاتهم
الى ما هو أبعد من شكل الحكومة وعدد أعضائها نحو مضمون المحاصصة في المقاعد
الوزارية بما يضمن حصة كل فريق في الصفقات المتوقعة.
أما الثورة فتطالب أحزاب هذه المحاصصة
الفاسدة التنحّي جانباً وفسح المجال أمام فريق سياسي مستقلّ تولّي دفة الحكم في
المرحلة الانتقالية الضرورية لخروج لبنان من المأزق العميق الذي أوصلته اليه. ولا
تستثني الثورة أي من هذه الأحزاب لأنها شريكة ومستفيدة في المحاصصة أو في تغطيتها
وبالتالي هي متهمة بأساءة إستخدام السلطة. المهمة الأولى لهذا الفريق هي إعادة ثقة
المواطنين بدولتهم وثقة المجتمع الدولي بالحكم في لبنان. كما تؤكد الثورة على
ضرورة الانطلاق من تعزيز استقلالية القضاء لمكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين واسترجاع
الاموال المنهوبة وتخفيف أعباء معالجة الازمة ومفاعيلها عن كاهل المواطنين
العاديين. إلا أن الثورة نفسها، وعلى الرغم من نجاحها في التعبير عن مواقف موحّدة
من المطالب الاصلاحية وتدرّجها إلا أن عملية تحوّلها الى قوة تغيير لا زالت تعاني
من مخاض طال أكثر من اللازم. لا شك بان الثورة قد تجاوزت صعوبة تنوعها، لا بل كان التنوع
عنصرا شديد الاهمية وتحوّل الى عامل قوتها وتوحيدها. إلا أن إدارة الصراع اليومي والادوات
التي استخدمت فيه لم تتطور بنفس السرعة لمواكبة الحالة السياسية الضاغطة التي
خلقتها الثورة.
يواجه لبنان اليوم منطقين
نقيضين متناحرين يصعب التوفيق بينهما. وعلى الرغم من أهمية السير المتدرج بالمسار الاصلاحي
ولكن يجب أن يسير الاصلاح بخطوات ثابتة وفق رؤية وأهداف واضحة. لم يكن الثوار يوماً
واهمين بأن أحزاب سلطة المحاصصة سوف تفسح المجال طوعاً أمام الاصلاحات الجذرية لتأخذ
مجراها. لانهم أدركوا، أي أركان السلطة، منذ اليوم الاول بان النظام الطائفي هو أداتهم
القوية التي تحمي المحاصصة لذلك فأن تغييره لن يكون بالأمر السهل.
كلما اشتد المأزق الذي تعاني
منه الطبقة المهيمنة على السلطة ستمعن في قمع الثورة ومنع حصول أي تغيير بنيوي في
الحكم. فهذه الطبقة تختلف بينها على كل شيء إلا على أمر واحد، وهو ضرورة حماية
النظام الطائفي الذي كرّسه التطبيق المجتزأ لدستور الطائف وعزّزه اتفاق الدوحة
واعطته التسوية الرئاسية دفعا قويا.
لقد حاولوا جميعاً إمتطاء
موجة الثورة والاستفادة منها في صراعاتهم، فمنهم من راهن على المشاركة المباشرة فيها
ومنهم من ترك المجال أمام بعض أنشطتها أن تستمر في مناطق نفوذه أو خضع لضغط الثورة
وبأس ثوارها ومنهم من ادّعى انه ينتمي إليها وبعضهم حذّر منها صراحة رغم تبنّيه
مطالبها ولكن الحقيقة أنهم كلّهم توجسوا منها. وكلهم فشلوا في ركوب موجتها مجرّد
أن نجحت في عبور الطوائف والمناطق وتجذّرت مطاليبُها وتجاوزت الاختلافات وخلقت
حالة وطنية ناصعة ومميزة أرعبتهم وقضّت مضاجعهم ما دفعهم الى الاتفاق على نقطة
واحدة وهي ضرورة إنهائها والقضاء عليها. تم استخدام وسائل عديدة طيلة أيام الثورة لايقافها
فشلت جميعُها، لكن ما شهدناه ليل أمس (الاحد والاثنين في 15 و16 كانون أول) هو
تحوّل في أداء السلطة وأحزابها يقوم على التعاون بين الأجهزة الأمنية من جهة وأدواتها
وبعض الميليشيات للسيطرة على الساحات. هذا بالاضافة إلى الامعان ببث الدعاية
الكاذبة والتحريض الحزبي والمذهبي الممنهج.
لن تنتهي الثورة بسهولة لأنها
نجحت بخلق حالة وطنية حقيقية وساعدت على إستعادة المواطنة ورفع منسوبها الى
مستويات عالية من المشاركة والتأثير والضغط باتجاه التغيير. ولكن المطلوب هو عودة أطرافها
الى الحوار الهادئ والمفتوح. لقد اجتزنا منعطفات خطيرة وصعبة واستطعنا من عبورها بأمان
بفضل وحدتنا وتصميمنا، ولكن ثورتنا تمرّ الآن بمنعطف مصيري يضعها ويضع ابناءها على
المحك، فهل ستتمكن القوى المشاركة في الثورة من تجاوز ذاتيتها بعدما اكتشفت أن
خلافاتها هي ثانوية في هذا الصراع المستعر من أجل استعادة المواطنة التي تقوم على
العدالة في الحقوق والواجبات؟
أنا أجزم بانه كلّما اشتدت الأزمة
وتبلورت أهداف الثورة المضادة أكثر فأكثر كلما شعر الثوار بضرورة تعزيز وحدتهم
وتطوير أدواتهم للحوار وللعمل المشترك وللمواجهة الصلبة بوجه خصم شرس لا تخلو
ممارساته من أعمال إجرامية تقوم على الانتهاكات.
تعالوا نتحاور ونتلاقى في
ساحة وطنية واحدة متناسين خلافاتنا واختلافاتنا ولنعيد التأكيد على مطالبنا السياسية
والاقتصادية والاجتماعية ومواقفنا المبدئية من التغيير، فمستقبل بلادنا وتطوره
الديمقراطي وازدهاره يبقى هو الأهم.
Comments
Post a Comment