قرارات الحكومة اللبناني "الاّ"إصلاحية: جهلٌ أم تجاهل


زياد عبد الصمد
بعد خمسة أيام على الإحتجاجات العارمة التي طالت كل ساحات لبنان بمدنه وقراه وفي كل المحافظات من دون إستثناء وبمشاركة مئات ألوف من المواطنين والمواطنات في ظاهرة غير مسبوقة يشهدها البلد، وبعد ثلاثة أيام على المهلة التي طلبها رئيس الحكومة لكي يتقدم باقتراحات إصلاحية تعالج الخلل الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي تعاني منه البلاد، ولدت الحكومة "فأراً".
أساساً لم يكن الحراك يتوقع من الحكومة أكثر مما جاءت به، فالمسؤولون في السلطة جزء من الأزمة وهم سببها من خلال ممارساتهم وسياساتهم على مدى العقود الماضية خاصة بعد إتمام الصفقة الرئاسية التي أدّت الى تعطيل ما تبقى من آليات الحكم في الدولة والمؤسسات. لم يعد أمام الحكومة الآن الا الاستقالة لاسيما بعدما عبر الحراك عن رفضه للمقترحات التي جاءت بها. وعليها ان تفسح المجال امام مرحلة انتقالية يقودها أشخاص مستقلون ذات كفاءات يكونوا أكثر حرصاً على المال العام ومصالح الوطن والدولة  
الورقة التي تقدمت بها الحكومة ليست إصلاحية على الإطلاق ولا تستجيب لمطالب المحتجين، لا بل "هي المطالب التي طالبتُ فيها منذ سنتين" كما جاء على لسان الرئيس الحريري عند اعلان قرارات مجلس الوزراء. ليخرج من بعده الوزير ابو فاعور متحدثا الى اللبنانيين عن إجماع الوزراء عليها (باستثناء وزيري الاشتراكي) ليقول بأن هذا اقصى ما يمكن أن تقدمه هذه الحكومة
ماذا تضمنت الورقة ونعتبره خطيرا؟
بعض الملاحظات السريعة على الورقة التي اقرتها الحكومة، ولا يتسع المجال في هذه المقالة لتفنيد كل الملاحظات عليها.
-        إن قرار وقف الانفاق العام الاستثماري يعني تجميد الاقتصاد الوطني في الوقت الذي يفترض أن يتوسع هذا الانفاق ليحرك عجلة الاقتصاد ويخلق فرص عمل جديدة، إلا أن حجة الحكومة هي الهدر والفساد كما جاء تبريراً على لسان الرئيس وهذا عذرٌ أقبح من ذنب، فالمطلوب تدابير سريعة لتفعيل دائرة المناقصات العمومية وتطبيق قوانين مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية بدل اللجوء الى الاستثمارات الاجنبية المباشرة كما جاء في الخطة؟!
-        الاعتماد على أموال الجهات الدولية التي شاركت في مؤتمر دعم لبنان "سيدر" وهي معظمها ستأتي بصيغة ديون وهي ديون مشروطة بتطبيق سياسات وتدابير تقشفية على حساب ذوي الدخل المحدود والفقراء. وبالتالي يراهن الرئيس وحكومتُه والعهد من ورائه على استدانة 11 مليار دولارا اضافيا لكي يعالجوا العجز في الموازنة العامة بدل ان يعمدوا الى توسيع الاقتصاد الوطني ووقف ابواب الهدر وتعزيز الجباية العادلة
-        اللجوء الى التشريك، وهو عنوان مخفّف للخصخصة التي تستهداف المرافق العامة والتي لا زال بمقدورها أن تدرّ مداخيل الى المالية العامة مثل شركات الاتصالات وادارة المرفأ وطيران الشرق الاوسط وكازينو لبنان وغيرها، بحجة ان الفساد ينخرها.
-        لا يطمأن الشعبُ الى التوجه بالغاء الضرائب لانه يريد الالتزام بأحد أهم مبادئ المواطنية ولكن بعد إعادة النظر بالنظام الضريبي الذي يقوم على الضرائب المباشرة على الدخل بطريقة تصاعدية على الشطور، فالاشكالية ليست في عدم توفر الاموال ولكنها تكمن في التفاوت الهائل في توزيع الثروة في لبنان بحيث أن أقل من 1% من المواطنين يملكون أكثر من 50% من الودائع المصرفية
وبالتالي أي موازنة عامة تنتجها هذه الرؤية؟ ما كانت تعدُ به الحكومةُ الشعبَ والجهات الدولية بموازنة عامة للعام 2020 بات غير واقعي خاصة أنها تتحدث عن خفض للعجز إلى 0.6% من دون براهين وإثباتات علمية وبالتالي هو أمر مشكوك فيه
ما هي التدابير التي نرى ان الورقة لم تطرق اليها ويجب تطبيقها؟
فيما يلي بعض التدابير التي تحتل أولوية لمعالجة الازمة بشكل جذري:
-        خطوة أساسية تقوم بها الحكومة هي التفاوض مع المصارف اللبنانية من أجل تخفيض الفوائد على الدين العام حيث أنها تستحوذ على أكثر ن 40% منه وهي خلال العقود الماضية حققت أرباحاً خيالية نتيجة ارتفاع الفوائد من جهة والهندسات المالية المتكررة التي طبقها مصرف لبنان لصالحها من جهة ثانية، وهذه أنجع وسيلة لخفض العجز حيث أن خدمة الدين العام تشكّل أكثر من ثلث الإنفاق العام، هذا لو توفرت النيّة الصادقة بتوزيع أعباء السياسات التقشفية بشكل عادل
-        إعادة النظر بنظام الجباية، الضريبية والجمركية، بحيث يساهم بإعادة توزيع الثروات بشكل عادل على المجتمع. وهذا يخفف من الاعتماد على الضريبة على الاستهلاك (تفوق الـ70% من الجباية الضريبية) وتعزيز الضريبة على الدخل وهذا يترافق مع نزع السريّة المصرفيّة عن حسابات المسؤولين في الدولة من رؤساء ووزراء ونواب وكبار الموظفين بالاضافة الى المقاولين الذي يتعاقدون مع الدولة من أجل تنفيذ المشاريع الكبرى وتعزيز الجباية الجمركية ووقف التهريب من المعابر الشرعية وغير الشرعية
-        إعادة هيكلة كتلة الأجور في الإدارة العامة حيث أن الوظائف العليا (رؤساء مصالح ومدراء عامون واعضاء مجالس إدارات) يستحوذون على القسم الأعظم من الإنفاق على الأجور نتيجة الرواتب المرتفعة من جهة وبدل الساعات الاضافية التي تفوق الـ50 ضعف الأجر ببعض الحالات والبدلات الأخرى، ذلك بدل اقتطاع نسب من أجور الموظفين والمستخدمين
-        إعادة النظر بنظام الحماية الاجتماعية بما يضمن حماية شاملة لكل المواطنين، وهذا يتطلب توحيد الجهات الضامنة للخدمات الاجتماعية والصحية (الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وضمان المؤسسات غير المدنية) والتي لا تغطي أقل من 50% من الشعب واعتماد نظام شامل يطال كل الشعب ويغطي مختلف القطاعات الصحية والرعائية والاجتماعية (ضمان الشيخوخة، الامومة والطفولة وحماية البطالة وطوارئ العمل الخ.) ووقف الانفاق الاجتماعي غير المجدي لاسيما على التعليم المجاني والمنح التعليمية مقابل تعزيز التعليم الرسمي المدرسي والجامعي والمهني وتعزيز الاستشفاء العام وتخفيض فاتورة الاستشفاء التي باتت تعتبر الاغلى في العالم نسبة الى عدد السكان
ما هو المطلوب على المستوى السياسي؟
هذه هي اللحظة التاريخية لاستعادة الدولة المخطوفة ومؤسساتها، واستعادة القرار الوطني في الامور المصيرية التي تحصّن الوحدة الوطنية وتعيد الاعتبار الى آليات التمثيل الحقيقية وتفعيل المشاركة المواطنية في آليات اتخاذ القرار
لقد اثبتت الاحداث ان نظام المحاصصة الحزبية والطائفية اغتصب الدولة ومؤسساتها وهو مولد للفساد وهو الذي يحمي الفاسدين لذلك يجب الاسراع بتنفيذ اتفاق الطائف والبدء بمسار الغاء الطائفية والتوجه نحو الدولة المدنية، واطلاق الحوار حول اقرار قانون انتخابي ديمقراطي يصحح التمثيل الشعبي ويعيد الاعتبار الى شرعية المؤسسات، وفصل السلطات لتعزيز العمل الرقابي للبرلمان وتعزيز الستقلالية القضاء وفصل السلطات
لا بد من اقرار جملة من القوانين التي تحمي المال العام، من القوانين التي تمليها الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والتي انضم اليها لبنان فتحولت الى إلتزام أمام المجتمع الدولي
هذه خطة يعتبرُها البعض غير واقعية ولكن وقع الشارع خلق واقعاً جديداً في لبنان بعد أن وصل النظام إلى مازق باتت أمامه المرحلة الإنتقالية المخرج الوحيد تفرضه مئات ألآلاف من الحناجر التي تنادي "الشعب يريد ..."

Comments

Popular posts from this blog

نحو تجديد نبض الثورة (رسالة راس السنة 2020)

صحيفة العرب القطرية - اقتصاد :: شبكة المنظمات العربية تسعى لتعزيز الشفافية

المنطقة العربية: تحديات تتعاظم وتجاوب القيادة الرسمية لا يرتقي الى المستوى