خطة الحكومة الإصلاحية: اللجوء الى صندوق النقد الدولي (مؤسسة عصام فارس للعلاقات الدولية والسياسات العامة)
وصل لبنان الى مفترق الخيارات الصعبة بعد أن استفحلت الازمة بأبعادها المختلفة، المالية والنقدية والاقتصادية وفوق كل هذه الابعاد تأتي الازمة السياسية. ومن أبرز ملامحها العجز في المالية العامة وفي الموازنة العامة وفي الميزان التجاري، فاستحاَلتْ الى أزمة سيولة في العملة الأجنبية في ظل اقتصادٍ "مدولر" وتصاعد المديونية العامة وخدمتها بوتائر متسارعة جداً. ذلك، في ظل وجود طبقة سياسية تعمل لخدمة مصالحها الضيقة والتي تسعى الى تحقيق هدفين أساسيين: أولاً تحقيق الأرباح المباشرة من الصفقات العمومية ما تسبّب بهدر كبير للموارد والأموال العمومية، وثانياً تعزيز نفوذها الاجتماعي والسياسي وضمان استمراريتها في السلطة من خلال سوء استخدام النفوذ والتوظيفات الزبائنية على حساب الكفاءة والولاء الوطني والجرأة باتخاذ القرارات المستقلة، ما تسبب في تضخم القطاع العام وعجز الإدارة عن مواكبة التطور وتوفير الخدمة العامة بالكفاءة المطلوبة.
كثيرون يروّجون
حالياً للجوء الى صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة التقنية والقروض لتوفير
السيولة الضرورية وتشغيل الدولة كأحد الخيارات الأساسية لا بل ربما انه الخيار الوحيد
بعد ان تأخرت الحكومات في معالجة الأوضاع قبل ان تتفاقم وتصل الى هذا المستوى من
التأزم، مع العلم المسبق بالثمن الباهظ الذي يترتب عن ذلك. فمعروفة هي مطالب
الصندوق، إذ أنه سبق وتقدم بجملة من الاقتراحات في تقرير أُعدّ في أكتوبر من العام
2017 وفق البند الرابع من الاتفاقية مع لبنان حين بدا واضحاً ان العلاقة التي تربط
السلطة المالية ومصرف لبنان والمصارف التجارية غير صحيّة، خاصة في ظل علاقة عضوية تربط
الطبقة السياسية الحاكمة والمصارف التجارية من خلال ملكية الأسهم والأصول بنسبة 43%
(جاد شعبان)، ما يكرّس هيمنة على القرار الاقتصادي والمالي وغياب الشفافية عنه. لقد
بدأت الأزمة تطلّ بوضوحٍ نتيجة تقلّص التدفقات المالية ابتداءً من العام 2016 وعندما
اضطر مصرف لبنان الى إصدار سندات اليوروبند بقيمة 13 مليار دولار بفوائد مرتفعة ما
أدى الى انحراف الرساميل والقروض المصرفية عن القطاعات المنتجة المولّدة للنمو
ولفرص العمل (عبدو 2018). اقترح الصندوق حينها اعتماد التدابير التقشفية، أي تقليص
النفقات من خلال تقليص كلفة القطاع العام والانفاق الاجتماعي ووقف الدعم عن كهرباء
لبنان، وزيادة الواردات من خلال رفع الضريبة على الدخل وعلى القيمة المضافة وفرض الرسوم
على البنزين وعلى انتقال الملكيات العقارية والفوائد على الودائع (شرّي 2019).
تتضمن خطة
الإصلاح الحكومية التي تقدمت بها الحكومة في 30 أبريل 2020 كل هذه التدابير مع توجّه
يدعو الى تقليص القدرة الاستهلاكية لدى المواطنين ما يخفّض فاتورة الاستيراد ويعيد
التوازن الى الميزان التجاري (ابريل 2020). وهذا يؤدي عملياً الى انكماش اقتصادي
ويضاعف الحاجة الى الاستدانة لتوفير السيولة الضرورية لتسيير شؤون الدولة لاسيما
في ظل ازمة الثقة الحادة التي يعاني منها القطاع المصرفي والمالي ما يخفض من
احتمالات تحويل رساميل واستثمارات من الخارج. لذلك لم تلحظ الخطة أي مصدر تمويل
باستثناء القرض من صندوق النقد الدولي والذي تقدّر قيمته بـ 10 مليار دولار بالإضافة
الى تعهدات الدول المانحة في مؤتمر "سيدر" لتمويل وتطوير البنية التحتية
وتقدر قيمته بـ 11 مليار دولار. أما في حال لم تصل المفاوضات مع الصندوق الى
النتائج المرجوة، فتقترح الخطة في هذه الحالة بيع أصول الدولة وممتلكاتها وخصخصة
المؤسسات العامة (المرفق 2 للخطة).
ان التدابير
التقشفية التي تقترحها الحكومة ستكون لها تبعات اجتماعية خطيرة خاصة مع تدني
القدرات الاستهلاكية للمواطنين وانتشار البطالة وتخفيض الرواتب في القطاعين العام
والخاص على حد سواء، وتخفيض الانفاق الاجتماعي عموماً، فالخطة الحكومية لا تتضمن رؤية
لتعزيز نظام الحماية الاجتماعية للمواطنين وفق معايير الحد الأدنى للعيش بكرامة
واحترام حقوق الانسان. لا بل تقتصر على مجموعة من التدابير التي بالكاد ترتقي الى
مستوى "شبكة للحماية الاجتماعية" تستهدف الاشخاص الأكثر فقراً وتشمل 200
ألف مواطن في الوقت الذي تقدّر فيه الخطة نفسها أن عدد الفقراء في لبنان قد يتجاوز
المليون شخصا. هذا بالإضافة الى التوقعات بتزايد معدلات البطالة والعاملين في
العمل غير النظامي أي الذين لا يتمتعون بأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية
والاستمرارية في العمل.
إن تفشي
الفساد السياسي أدّى إلى اهدار مئات مليارات الدولارات التي تدفقت الى لبنان خلال
العقود الماضية لاسيما بين عامي 2008 و2010، ولكن منذ اندلاع الازمة في سوريا عام
2011 وانعكاسها على لبنان وبروز ملامح الازمة فيه لم تتخذ الطبقة السياسية والحكومات
المتعاقبة أي تدبير لتدارك هذا الانهيار رغم كل التحذيرات والاشارات التي تلقتها، لا
بل تمت الاستفادة من التدفقات المالية لمراكمة الثروات على حساب مصلحة الشعب مستفيدين
من نظام المحاصصة المذهبية والحزبية، فما هي الضمانة اذن بان هذه الطبقة السياسية نفسها
في ظل نظام المحاصصة ذاته لن تسئ استخدام الأموال واهدارها مجددا؟ لذلك الحل لا يمكن
أن يكون في ظل وجودها، فالمطلوب هو ان تتشكّل حكومة من شخصيات سياسية مستقلّة
تتمتع بالكفاءات الضرورية وبالحس الوطني والأخلاقي وبالجرأة اللازمة، تعيد ثقة
المواطنين والمستثمرين والمجتمع الدولي عموماً بلبنان وبنظام الحكم فيه، فتأخذ
القرارات التي تصب في مصلحة لبنان عموما والمواطنين على وجه الخصوص. على ان تتمتع
بصلاحيات تشريعية استثنائية خاصة في المجالات المالية والاقتصادية. وتتولى التفاوض
مع صندوق النقد الدولي حاملة الأولويات الوطنية التي تخدم مصلحة الشعب وتعيد الحد
الأدنى من التوازن الى العلاقات الاجتماعية.
Comments
Post a Comment