سمير أمين: الدينيون ليسوا دينيين

"اهمية المفكر هي أن يقترن انتاجه الفكري بنضاله اليومي"، هكذا كان يقول سمير أمين، وهذا ما سعى الى تطبيقه في حياته.

من مناضل في صفوف الحزب الشيوعي المصري الى باحث في العلوم السياسية والاقتصادية، ومفكر ماركسي تعمّق في دراسة الراسمالية المعاصرة. لم يثنه منفاه القسري في باريس ايام الخلاف بين عبد الناصر والشيوعيين عن متابعة البحث في ظاهرة الرأسمالية، معتبراً انها متلازمة مع الامبريالية، بسبب التمركز الشديد للثروات. هل يمكن للرأسمالية ان تستمر من دون ان تقترن بالامبريالية؟ سؤال جاوب عليه بشكل قاطع، لا يمكن.

شكلت إفريقيا مجاله التطبيقي الاول حيث رأي كيف يساهم صندوق النقد والبنك الدوليين في إحكام سيطرة النظام الرأسمالي العالمي على مقدرات البلدان النامية. "لا يمكن ان تنتصر الشعوب الفقيرة على الرأسمالية المتوحشة الا من خلال فك الارتباط مع مراكزها". هذه كانت قناعته وهذا ما دفعه الى التعمّق أكثر بدراسة العولمة. إلى أن أصبحت نظرياته تدرّس في أهم جامعات العالم، من أميركا اللاتينية الى أفريقيا وآسيا بما في ذلك أوروبا.

اعتبر سمير امين أن العولمة هي نظام اقتصادي متوحش يصبو الى الهيمنة ويجب مقاومته، فكان من أوائل الذين شاركوا في تنظيم منتدى "ضد دافوس" في المنتجع السويسري الشهير مع مجموعة من رفاقه العرب ومن سائر دول العالم. ما دفع بالرئيس الفرنسي جاك شيراك آنذاك الى القول "بانه ضد ما يجري بدافوس (المنتدى الاقتصادي العالمي) لانه سيقود العالم الى المزيد من التحديات والكلام الذي يقولونه إستفزازي"، ولكنه لم يوافق على مع يقوم به جوزيه بوفيه ورفاقة (وكان سمير أمين أحدهم) لانه لن يوصل الى نتيجة، كان ذلك عام 2001، أي مباشرة بعد التحركات المناهضة للعولمة التي نُظمت في مدينة سياتيل الاميركية وأدت الى إفشال ثالث اجتماع وزاري لمنظمة التجارة العالمية  أواخر عام 1999.

شارك في "منتدى بيروت حول العولمة ومنظمة التجارة العالمية" في نوفمبر عام 2001، أي اسابيع بعد اجتياح الولايات المتحدة لافغانسان. فكانت له كلمة في الافتتاح الى جانب الرئيس الجزائري السابق احمد بن بلا والمناضل الاممي الفرنسي جوزيه بوفيه. فقال سمير أمين يومها: "لقد دخلت العولمة طورها العسكري مع حرب الخليج ثم مع حرب يوغوسلافيا لتستمر في الحرب الراهنة الدائرة في افغانستان، ولم يكن هدف الولايات المتحدة ابن لادن ولا الطالبان انما احكام السيطرة على اسيا الوسطى وحقول النفط والعمل على تاسيس خط استراتيجي جغرافي للضغط على روسيا والصين وايران والهند".

في العام 2003  شارك في بيروت في مؤتمربعنوان "الحرب والإرهاب: حقوق الشعوب وعسكرة العولمة ". فقال في جلسة الافتتاح "من الواضح أن المشروع الأمريكي سيفشل. لقد بدأ بالفعل بالفشل. لقد خسرت الولايات المتحدة الحرب في العراق دبلوماسياً وأخلاقياً وثقافياً". وقال إننا في مرحلة من الزمن حيث "البعد الهدام للرأسمالية أقوى من بعدها البناء، وأصبحت المركزية الرأسمالية خطرا على الحضارة الإنسانية". وتابع: "يعتبر الاقتصاد الأمريكي من أكثر الاقتصادات انعدام الكفاءة (في العالم) ... وإذا كان النظام مفتوحاً للتجارة دون حماية ، فإن الولايات المتحدة سوف تهزمها مجموعة كاملة من المنتجات من أوروبا واليابان". وختم قائلا: "إن الهدف الحقيقي هو الصين، وفي نهاية المطاف روسيا، وبالتأكيد الهند، ولكن أيضا أوروبا بطريقة ما من خلال السيطرة على المركزية العسكرية للنفط في المنطقة وممارسة الضغط على أوروبا بحيث تكون مضطرة للالتزام بالقرار الأمريكي".

هكذا كان سمير امين المناضل يسبق عصره، فبعد سنوات واجهت الولايات المتحدة أسوأ أزمة اقتصادية انعكست على كل العالم ولا زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم. وهي تواجه حالياً كل العالم بما يعرف بـ"الحرب الاقتصادية" التي تشنّها على الصين وروسيا وايران واوروبا وتركيا

شارك الدكتور سمير أمين في المنتدى الاجتماعي العالمي الاول في العام 2002 في مدينة بورتو اليغري البرازيلية، انسجاماً مع قناعته عندما قال: "إذا كان للامبرايالية ان تستمر فيجب ان تواكبها الحركات الاجتماعية".

وفي السنة التالية ألتقى المنتدون في النسخة الثانية لبورتو اليغري مع الرئيس البرازيلي المنتخب حديثا "لولا دي سيلفا"، وهو القائد العمالي الذي ساهم في انشاء وتنظيم المنتدى الاجتماعي العالمي وقد انتخب رئيسا للبرازيل أواخر عام 2002 عقب اسوأ أزمة إقتصادية ومالية عاشتها البرازيل نتيجة المديونية العالية، واستلم الرئاسة فعليا مطلع 2003. في هذا الاجتماع الموسع، جلست قيادات الحركات الاجتماعية في العالم في قاعة كبيرة، فما كان من سمير أمين الا أن أخذ الكلام ليقول مصارحاً بجرأته المعهودة: "ايها الرفيق نحن سعداء جدا لانك وصلت الى السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية وهذا انتصار للحركات الاجتماعية وستراها الى جانبك عندما تحتاجها، ولكنني احذرك من المهادنة مع النظام الرأسمالي وعقد اي صفقة مع صندوق النقد الدولي لان مصيرها سيكون الفشل، فهم لا يريدون لك النجاح ونحن سنراقبك باهتمام شديد وعندها لن نكون الى جانبك".

بعد الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بحسني مبارك، انتقل سمير امين الى القاهرة فوراً حيث ساهم في تأسيس الحزب الاشتراكي المصري معتبراً ان ما جرى في مصر هو "اكثر من انتفاضة واقل من ثورة" فالثورة لكي تكتمل يجب ان تقترن بالتغيير الجذري في الحكم وفي السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الديمقراطية لذلك رأى أن العملية الثورية مستمرّة وستكون لها ارتدادات في الممستقبل لاستكمال التغيير.

الا انه اعتبر ان التيارات الاسلامية لا تريد التغيير. فهي حركات سياسية تدّعي ان المسلم يجب أن يعيش في دولة اسلامية، ولكنها فعلياً حركات لا تمت الى الدين باي صلة، معتبرا انها تخاطب الغرب ولا تتوجه الى شعوبها. ولكنه يستدرك ان الاوروبيين والتيارات الاسلامية يعطون صورة مختلفة عن الاسلام الذي ساهم في نشر الثقافة والوعي لدى شعوب المنطقة وساهم في نهضتهم وان الدين الاسلامي والمسلمين لا يشبهون ابدا التيارات الاسلامية والاسلام السياسي الذي أدانه سمير امين بشدة معتبراً أنه أسقط التغيير الثوري الذي انطلق من ميدان التحرير عام 2011.

اعتبر سمير أمين بان المرحلة تشهد خريفَ النموذج الرأسمالي الحالي، ولكن ربيع الشعوب لم يبدأ بعد، فالبديل لم يتبلور. واعتبر ان التنمية والديمقراطية لا تنفصلان ولا يمكن تحقيق سيادة حقيقية على النموذج الاقتصادي من دون الانفتاح على الشعوب وخاصة على الطبقة العاملة والفقراء، ولا تبنى الاوطان من خلال الشعارات السياسية والقومية الرنانة كما حصل في نموذجي البعث في العراق وسوريا.

كان يفترض ان يكون لقاؤنا التالي مع سمير أمين في بيروت في المنتدى الثاني حول الحرب والعولمة وحقوق الشعوب في نوفمبر 2017 على أن يمر عبرها في طريقه من باريس الى القاهرة، فتنقلاته باتت محدودة. الا ان استعار القتال في الجوار أدى الى تأجيل المؤتمر، وللاسف لن يحصل لقاء معه بعد الان

سمير امين مفكر مجتهد، قد توافقه الرأي أو تختلف معه، وهذا شأن كل مفكر مجتهد، ولكنه حاول وحاور وفكر واختلف ثم التحق بالحركات الشعبية وكان كلما تعمق فيها كلما ازداد فكره تألقاً.

سمير أمين وداعاً

Comments

Popular posts from this blog

نحو تجديد نبض الثورة (رسالة راس السنة 2020)

صحيفة العرب القطرية - اقتصاد :: شبكة المنظمات العربية تسعى لتعزيز الشفافية

المنطقة العربية: تحديات تتعاظم وتجاوب القيادة الرسمية لا يرتقي الى المستوى