دور منظمات المجتمع المدني في دعم تمثيل المرأة ومشاركتها السياسية
مقدمة
تُجمع الجهات المعنية بمواجهة تحديات التنمية بأن اللامساواة وغياب العدالة
هي من العوامل الأساسية التي تعيق إمكانية تحقيق خطط العمل التنموية. وتؤكد هذه
الجهات بان النظام الاقتصادي الليبرالي الذي يؤدي الى تحالف متين بين السلطة
والمال يولّد طبقة من المنتفعين يستغلون السلطة أو قربهم من مواقع القرار لتكديس
الثروات على حساب أغلبية المجتمع. ما يؤدي الى تمركز الثروات في أيدي فئة قليلة
جداً (قد لا تتعدى الـ1%) في الوقت الذي يتزايد فيه عدد الفقراء والمعوزين
والمهمشين. إن هذه الظاهرة التي تسمى بـ"رأسمالية المحاسيب" هي من
العوامل الأساسية التي تولّد التمييز على مختلف مستوياته بما في ذلك بحق المرأة.
فالصورة النمطية التي تحدِد للمرأةِ سلفاً وظيفتَها الاجتماعية في ظل هيمنة
الثقافة الذكورية تقيّدُها بسلاسل متينة وتساهم في تهميشها.
أما الفكر التنموي الحديث يحسم بأن التنمية ملازمة للحرية. وأن الحرية لها
ثلاثة أبعاد أساسية: الحرية من العوز والحرية من الخوف وحرية الاختيار والعيش
بكرامة وكل هذه الابعاد تعزز أهمية المساواة وتتناقض بالكامل مع كل الفكر الذي
يقوم على التمييز.
المرأة هي نصف المجتمع وبتهميشها نكون طواعية قد همشنا نصف الطاقات الكامنة
فيه. فضلا عن كون النهضويين والتنويريين العرب في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات
القرن العشرين قد اكتشفوا هذه الحقائق وأكدوا عليها في كتاباتهم المعروفة، وهم
الذين لم يروا أي احتمال لتحقيق النهضة في المنطقة والانعتاق من نير الاستعمار والتحرر
من الاستبداد الا مع تحرر المرأة من القيود التي تعيق تقدمها وتطورها.
في هذه المداخلة سأحاول الإضاءة على دور المجتمع المدني في دعم المشاركة
السياسية للمرأة وما هي الوسائل التي تساعد في تحقيق هذا الهدف. ولكن قبل ذلك لا
بد من التدقيق بمفهوم المجتمع المدني لكي تكتمل عناصر التحليل ولازالة أي لبس قد
يؤدي الى الانحراف عن الوجهة الأساسية التي نريدها.
التدقيق في مفهوم المجتمع المدني
أول ما يتبادر الى الذهن في معرض الحديث عن دور المجتمع المدني هو تصويب
الصورة النمطية والسائدة عنه وعن دوره. فخلال السنوات القليلة الماضية كثر الحديث
عن المجتمع المدني وكأنه اطاراً متجانساً ومتماسكاً وموحداً يقوم بدور واضح ويساهم
في وضع السياسات وينظم الحملات من أجل التأثير في صناعة القرار.
أثبتت التجارب أن الواقع غير ذلك. فعلى الرغم من الأدوار المتقدمة التي تقوم
بها بعض منظمات المجتمع المدني في ميادين كثيرة، نشير الى بعضها للمثال وليس للحصر:
الدفاع عن حقوق المرأة بمجالاتها المختلفة، من منح جنسيتها لزوجها في حال كان أجنبيا
وأولادها، الى مكافحة كافة أشكال التمييز ضدها، ومحاربة العنف بأشكاله المختلفة ودفاعاً
عن حقها بالمشاركة السياسية والاقتصادية وعن حقوق النساء ذوي الإعاقة، وغيرها من
القضايا الحساسة، فضلاً عن الدور الذي تطلع به هذه المنظمات من خلال المشاركة في
الحملات التي تتناول مواضيع حساسة مثل مكافحة الفساد والإصلاح الانتخابي
واللامركزية الإدارية وغيرها من الملفات الشائكة في مجال البيئة والتنمية
المستدامة كملف النفايات الصلبة والكسارات والنقل وغيرها من أمور.....
ولكن الكثير من المنظمات التي تنتمي الى المجتمع المدني تلعب أحيانا دوراً في
لجم التقدم نظراً الى رؤيتها التقليدية وانتماءاتها السياسية والاجتماعية
والثقافية التي تتعارض مع التقدم والحداثة. وقد برزت أيضا رغبة جامحة لدى الكثيرين
في تأسيس جمعيات يديرها أفراد أو شخصيات ناشطة في الشأن العام لها خلفيات ذاتية أو
حتى مالية ولخدمة أهداف شخصية ومن ثم الادعاء بأنها تنتمي الى المجتمع المدني. إن
هذا الامر لا يساعد على تجاوز الصورة النمطية التي تسعى القوى التقليدية والسلطة الى
إلصاقها بالمجتمع المدني بعدما بات يهدد مصالحهم ويعمل على فضحهم وفضح مآربهم
وأدوات عملهم. وهم يسعون الى الترويج لهذا التصور بشتى الأساليب لافقادها
المصداقية وبالتالي اضعاف دورها وتأثيرها.
وتاليا، فان تعريف المجتمع المدني الأقرب الى المنطق هو الذي يعتبر بانه
"فضاء عام" يقع بين السوق والسلطة (واحيانا بين المجتمع التقليدي) وهي
المحددات الأساسية التي تنتهك بممارساتها حقوق الانسان بابعادها المختلفة. وهذا
الفضاء يتسع للافكار والافراد والجماعات المتنوعة والمختلفة والتي تتراوح بين
السوق والسلطة والمجتمع التقليدي. والطامة هي عندما تتوحد آليات السوق مع السلطة
السياسية كما هو الحال الآن في لبنان فتصبح إمكانية التأثير بالسياسات العامة
محدودة جداً، كما وأن إمكانيات تطويع "بعض المجتمع المدني" لخدمة السلطة
وتحقيق هيمنتها تصبح أسهل.
لذلك، لا بد من تصويب المفاهيم لتصبح أكثر وضوحاً ولتحديد المقصود منها بدقة
أكثر. فـ"الخيار المدني" مثلاً هو الذي يعتنق مبادئ حقوق الانسان من دون
أي تحفظ عليها ويدافع عنها بمفهومها الشامل والمتكامل غير المنقوص. هذا الخيار
الذي يعمل على تعزيز الشفافية والمساءلة والمحاسبة ويتصدى للفساد ويتبنى مفهوم
سيادة الدولة والمؤسسات وفصل السلطات يعبّر عن المجتمع المدني كما نراه في حين ان
الأطر التقليدية التي تراعي بعض القيود وتلتزم بالمحددات الثقافية على حساب حقوق
الانسان هي أقرب الى المجتمع التقليدي الذي يعزز الانتماءات الاولية. وبذلك يصبح
المجتمع المدني حلبة لصراع الأفكار وتنافسها من أجل بلورة المواقف من القضايا
والتحديات والعمل على تطويرها.
تبقى الاشارة الى ان المجتمع المدني يتكون من مجموعة متنوعة من المكونات
التي تتضمن التيارات والاحزاب السياسية والحركات الاجتماعية بما فيها النقابات
العمالية والمهنية والمنظمات الشبابية والطلابية والحركات النسائية ووسائل الاعلام
ومراكز الابحاث والاكاديمية، على عاتق هذه المكونات تقع مسؤولية تفعيل المشاركة
للمرأة عندما نتطرق الى دور المجتمع المدني. وبشكل خاص الاحزاب السياسية التي على
عاتقها تقع مهمة تطوير الحياة السياسية في لبنان من خلال جملة من التحديات وعلى
رأسها تعزيز وتفعيل مشاركة المرأة في القيادة وفي دعم وصولها الى مةاقع المسؤولية
في المناصب العامة.
المشاركة السياسية للمرأة
وفي العودة الى الحديث عن المشاركة السياسية للمرأة من خلال النيابة تحديدا،
فتقع على عاتق المجتمع المدني مسؤولية إعادة الاعتبار الى الدور الأصلي للهيئات
التمثيلية (مجلس انواب) بما هو تشريعي أولا ورقابي ثانيا وتقريري ثالثا وتمثيلي
رابعاً قبل ان يكون خدماتيا. لا بل لا يجوز ان يستمر دور النائب كمعقب للمعاملات وكسمسار
لتوفير الخدمات. فالخدمات وفق الخيار المدني هي عبارة عن حقوق منقوصة يستعاض عن
غيابها بمنظومة من العلاقات الزبائنية التي تملي على المواطنين ولاءات تربطهم
بالقوى السياسية والتقليدية النافذة في السلطة. وبذلك يعاد انتاج السلطة التقليدية
وتُقطَع الطريقُ أمام قوى التغيير التي تسعى الى التقدم والديمقراطية.
أما دور المجتمع المدني في دعم مشاركة المرأة السياسية، فينطلق من العمل
على تعرية المنطق الذي يرتكز الى المفهوم التقليدي للسياسة وللنيابة والذي يعتبرها
حقا حصريا لعائلات معينة (انطلاقا من منطق التوريث السياسي) أو في أحزاب طائفية تحتكر
التمثيل في طوائفها ومذاهبها وهي عملياً تتحول الى أداة لتوفير الخدمات بشكل
انتقائي يطال جمهور المحازبين فحسب، معتبراً ان المرأة غير قادرة على حمل أعباء
هذه المهام. كما يقع على عاتق المجتمع تحديد معنى المشاركة السياسية للمرأة،
وتوضيح الالتباسات المتعلقة باساليب المشاركة ومداخلها من جهة والتفرقة بين كثافة
المشاركة اي كمية الافراد المشاركين في الانشطة السياسية ونوعية المشاركة اي درجة
الفاعلية التي تحققها هذه المشاركة.
أما الربط بين تفعيل المشاركة السياسية للمرأة وتعزيز الحريات العامة
والفردية وحماية الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي مسألة
أساسية وممر إلزامي لتحرير المرأة من القيود التي تعيق مشاركتها الفاعلة
والمستقلة. ومن دون ذلك لا يمكن كسر إحتكار التمثيل الذكوري والذكورية في المجتمع بشكل
عام.
هذا هو دور الخيار المدني الذي لا يمكن ان يقبل بمقاربة منقوصة لحقوق
الانسان تعطي الأولوية لمسألة على حساب مسألة أخرى دون التمسك بترابط المسائل
بعضها ببعض. فالمرأة التي تتمتع بكامل حقوقها المدنية والاجتماعية والثقافية هي وحدها
القادرة على أن تكون مستقلة إقتصاديا وقادرة بالتالي على المشاركة السياسية المؤثرة
والفاعلة.
بهذا المعنى، فان تمكين المرأة له مفهوم مختلف عن مجرد التدريب وتقديم
الدعم التقني واللوجستي، فهذه أمور قد يحتاج اليها أي شخص، رجلاً كان أم إمرأة لكي
يتمكن من القيام بدور سياسي فاعل، خاصة إذا دخل حديثاً الى عالم السياسة. ولكن تغيير
الصورة النمطية وكسر القيود الناجمة عن البيئة السياسية والاجتماعة والاقتصادية
والثقافية هي التي تساعدها على تخطي الحواجز والعقبات التي تحول دون مشاركتها
الفعلية. إذ أن التمكين السياسي للمرأة ضمن المفهوم التقليدي للتمكين وفي اطار
النظم والمؤسسات القائمة على اساس الذكورية لم يعد كافيا فيمتا لو لم يقترن
بالتمكين من أجل العمل على تغيير النظم القائمة وتطويرها لكي تصبح مؤهلة لتوفير
لمشاركة الجميع في الشأن العام وصنع القرار.
ذلك دون الانتقاص من أهمية تنمية المهارات الفردية في القيادة والتخطيط واتخاذ
القرار والتفاوض وفض النزاعات الا ان هذه المهارات تكتسب كذلك من خلال الممارسة
وتراكم الخبرة ولا يمكن بالتالي تأجيل المشاركة ريثما يكتمل بناء هذه المهارات والقدرات.
الكوتا الننسائية
هناك بعض التدابير المساعدة على تعزيز مشاركة المرأة، من بينها اعتماد نظام
الكوتا أي تخصيص مقاعد للمرأة. هذه مسألة محسومة بأهميتها وغير قابلة للجدل.
فالكوتا تُملي على القيادة السياسية والاجتماعية ممارسة إلزامية لتخصيص عدد من
المقاعد للنساء. وهذه الممارسة هي التي تؤدي بالنهاية الى كسر المقاربات النمطية
وتؤدي الى التحوّل في المنظومة الفكرية عند صناع القرار. هذا من جهة، ولكن أيضا
وكون المجتمع الحالي يتميز بالذكورية: وهذه ليست ميزة فقط في الدول النامية وفي
المجتمعات المحافظة، ولكن يتبين من خلال الممارسات بانها حقيقة ملازمة للثقافة
السائدة عموما وللنمط الإنتاجي والاستهلاكي، فان المجتمع الذكوري يحول دون تكافؤ الفرص
بين المرأة والرجل أو بين الأجيال، لذلك فان التدابير الملزمة التي تتعدى الالتزام
الطوعي، ستكون لها انعكاسات إيجابية على طريقة ومنهجية التفكير.
ففي مجتمع مثل لبنان حيث تخصص مقاعد إلزامية (كوتا) للمذاهب وللمناطق دليل
على أن التمثيل الصحيح لا يتم بشكل طوعي لا بل من خلال الإلزام وليس الإلتزام.
وهذا تأكيد إضافي على ضرورة أن تتحول الكوتا النسائية إلى حصة الزامية بدل أن تكون
إلتزاما طوعياً، مع العلم بان ادخال الكوتا النسائية في قانون الانتخابات ليس
كافيا فيما لو لم تقترن بادخال جملة من الاصلاحات على العملية الانتخابية نفسها وفي
البيئة السياسية أيضا بما في ذلك على المستوى التشريعي ومن ضمنها قانون الاحزاب
حيث يفترض أن يفسح في المجال أمام المرأة لتبوأ مناصب قيادية في الاحزاب بما يسمح
ببروز قيادات سياسية نسائية أو شخصيات سياسية تتبنى قضايا المرأة.
الانفتاح والحوار بدل الانغلاق والعزلة
ومن التدابير المساعدة في تعزيز مشاركة المرأة يأتي تعزيز التحالفات بين
الأطراف والقوى التي تعتقد بأهمية مشاركة المرأة السياسية، بدءاً بالمرأة نفسها ومؤسساتها
(الحركة النسوية) مروراً بالجهات التي تعتقد بأن مشاركة المرأة هي قيمة مضافة لا
يمكن تجاهلها نظراً لتأثيرها السياسي والاجتماعي والثقافي بالإضافة إلى كونها حقاً
أساسيا من حقوق الانسان للمراة، لاسيما حركة حقوق الانسان والحركة الحقوقية
والمدنية عموما
كما يتحمل المجتمع المدني مسؤولية التأكيد على أهمية المشاركة السياسية بأبعادها المرتبطة بخصوصية وضع النساء، والدفع باتجاه إعادة النظر بالموقف
من تقاسم الأدوار بين الرجل والمرأة بما يدفع بقضية المرأة لان تصبح قضية المجتمع
ككل.
ان تعزيز المشاركة السياسية للمرأة ليست بالمسألة التقنية التي تتعلق بالتدابير
لا بل هي مسألة ثقافية متجذرة في المجتمع، لذلك معالجتها والتصدي لها هي مسألة
تتطلب تضافر الجهود وحشد الطاقات والامكانيات وتنظيم الحملات التي تستخدم أدوات
متنوعة، من بينها التعمق في الحوار الثقافي والتصدي للنظرة النمطية وللبراهين
الغيبية التي تستخدمها القوى التقليدية لاعادة انتاج هيمنتها على المجتمع. ان هذا
التحدي يتطلب التعاون مع كافة الاطراف المعنية واطلاق الحوار مع مختلف المكونات
بما في ذلك الاحزاب السياسية والحركات العمالية والنقابية والمهن الحرة؛ وخصوصا تلك
التي تشارك في السلطة بفروعها الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية (حيث يتم
تفسير وتطبيق القوانين). ذلك يتطلب تحليلا للعلاقة
بين البنية الثقافية للمجتمع ونوعية العلاقات فيه والتي تنسج البنية الثقافية
الهرمية فكراً وأيديولوجية.
الخلاصة
تحرر المرأة من الصورة النمطية هو المدخل الى تحرر المجتمع من هيمنة الفكر
الذكوري كونه هو الذي يولًد التمييز باشكاله المختلفة. والمشاركة السياسية للمرأة
ليست خياراً ولكنها شرطاً من شروط تحقيق التنمية ومواجهة الاستبداد. ولكن دون ذلك
تحديات كبيرة من بينها المفهوم الملتبس للمجتمع المدني الذي يعكس التباساً في
مفهوم الصراع الاجتماعي بين القوى التي تعتنق الخيار المدني كحل وبين القوى التي
تتمسك بالتقاليد المولدة للهيمنة والاستبداد.
كما وان الأدوات التي تساهم في تحقيق ذلك هي تمكين المرأة من تعزيز
استقلاليتها وحرية خياراتها ولهذا وجب الارتكاز الى المقاربة الحقوقية التي لا
تنتقي الأولويات لا بل تعتقد بالمقاربة الشاملة والمتكاملة وغير المجتزأة للحقوق،
والعمل على البيئة الممكنة في ابعادها الثقافية والسياسية والاجتماعية
والاقتصادية.
ومن الأدوات أيضا اعتماد تدابير مؤقتة كالكوتا النسائية للانتقال من
الالتزام الطوعي الى الالزام في ممارسة المساواة وهو تمرين يجب ان يخضع له القادة
والمسؤولون مع الاخذ بالاعتبار ضرورة اصلاح التشريعات التي تؤدي الى انتخابات حرة
ونزيهة وشفافة والى نشوء أحزاب سياسية وحركات اجتماعية مستقلة قادرة على التاثير
بالسياسات العامة وتغييرها بالاضافة الى التشريعات التي تعزز مهنية وموضوعية وسائل
الاعلام. ولكسب الرهان على قدرات المجتمع المدني في التغيير لا بد من توسيع قاعدة
القوى المعنية في النضال من أجل احقاق الحقوق السياسية والمدنية للمراة بما في ذلك
المشاركة السياسية وبناء التحالفات واشراك أصحاب القرار.
Comments
Post a Comment