نديم عبد الصمد: القائد الشيوعي الصلب، برحيله تنطوي صفحةٌ نضالية طويلة


مزايا نديم عبد الصمد كثيرة يعرفُها ويقدّرها خصومُه قبل أصدقائه ورفاقه، وهي تتراوح بين الحكمة والهدوء والرؤية الثاقبة التي تحلّى بها والقدرات القيادية المميّزة والتواضع الزاهد والنزاهة وكرم الأخلاق. ولكن لا بدّ من التوقّف عند بعض المحطّات التاريخية في مسيرته والخيارات الكبيرة التي إتخذها لتبيان الترابط في مواقفه والتماسك في قناعاته والتمسّك بمبادئه طيلة هذه المسيرة.
منذ بدايات إلتحاقه بصفوف الحركة الشيوعية اللبنانية إنضم نديم عبد الصمد إلى المجموعة التي ناضلت من أجل إستقلالية الحزب الشيوعي اللبناني عن الحزب الشيوعي السوري نظراً لقناعتها بخصوصية كلا البلدين لاسيما سياسياً واقتصادياً. فكان الصراع داخلياً بين الحزب الذي قادَه خالد بكداش من دمشق والمدعوم سوفياتياً (في عهد ستالين وما بعده) والنزعة الإستقلالية التي قادها فرج الله الحلو ونقولا الشاوي ورفاقُهما ودفع فرج الله حياتَه ثمناً لها. ومن أبرز عناوين الصراع هو موافقة الحزب البكداشي على قرار تقسيم فلسطين إلتزاماً بقرار الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية العالمية. لذلك ساهم نديم مع مجموعة من رفاقِه الشباب في الصراع من أجل استقلالية قرار الحزب الشيوعي اللبناني عن الحزب الشيوعي السوفياتي، رغم الدعم المعنوي الكبير الذي كان يوفّره السوفيات للحزب في تلك الفترة. ذلك إنطلاقاً من خصوصية لبنان والمنطقة العربية والإختلافات في الرأي حول القضايا القومية والصراع الوطني الديمقراطي. وقد أدّى هذا الخيار السياسي إلى تعميق العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية لا بل ساهم في وضعها على قائمة الحلفاء الأساسيين للسوفيات والمعسكر الاشتراكي منذ انطلاقتها الجديدة أواسط الستينات وقد شغل نديمٌ منصب أمين سر الجبهة المشاركة مع الثورة الفلسطينية برئاسة كمال جنبلاط. وقد تركز الإهتمام على الإعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني كعنوانٍ لصراع مع القيادة السورية آنذاك.
وكان لنديمٍ الدور الكبير في المحافظة على الخيط الرفيع الذي ربط القيادة السوفياتية والحزب الشيوعي وفضلٌ أساسي في اعتبار منظمة التحرير حليفاً للسوفيات والمعسكر الإشتراكي في المنطقة. إذ كانت تربطه علاقات شخصية مع ياسر عرفات منذ أن التقيا في الحركة الطلابية، كما ربطته علاقات وثيقة بالقيادة السوفياتية وقيادات أوروبا الشرقية، نسجها بعناية ودقة عندما كان في إتحاد الشباب الديمقراطي العالمي. حتى أن هذه العلاقات قد ساهمت في تعزيز دوره الإستشاري حول قضايا دقيقة مرّت بها المنطقة العربية واستدعت تدقيقاً في مواقف السوفيات من الثورة اليمنية والنزاعات الداخلية التي عاشها اليمن الجنوبي وغيرها، وقد استمرت هذه العلاقات مع بعض القيادات الروسية بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وقيام الإتحاد الروسي.
مجموعة الشباب ذاتُها قادت الحزب في معركة استقلالية قرارِه عن النظام السوري الذي سعى إلى فرض هيمنته على الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية واستخدامهما كأداة في علاقاته العربية والدولية لتقوية مواقعه. واستمرت هذه التجاذبات إلى أن تحوّلت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول) ساحةً لهذا الصراع بين الحزب الذي أطلقها (إلى جانب منظمة العمل الشيوعي من منزل الشهيد كمال جنبلاط في ايلول 1982) والنزعة البعثية للإستئثار بقرارها. وكان نديم عبد الصمد مؤمناً بضرورة إستقلالية القرار الوطني اللبناني المقاوم مع بناء شبكة تحالفات واسعة عربية وعالمية. وهذا الموقف شكّل نقطة خلاف جوهريّة داخل قوى المواجَهةِ مع العدو الاسرائيلي.
 إستمر الصراع إلى ما بعد إتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية حيث استبعدت القيادة السورية الحزب الشيوعي من أي موقع مسؤولية في مرحلة إعادة بناء الدولة وتثبيت السلم الاهلي. إلى أن جاء الإنسحاب الإسرائيلي من الشريط الحدودي تنفيذاً للقرار 425 مزيلاً بذلك الحجة التي برّرت إستمرار الوصاية السورية على لبنان لسنوات. فكان أن أطلقت مجموعة يسارية بقيادة نديم عبد الصمد التيار السيادي الذي طالب بالإنسحاب السوري إستكمالاً لتنفيذ إتفاق الطائف، بعد تأخير فاق العشر سنوات. ساهم نديم عبد الصمد في تلك المرحلة بقيادة المنبر الديمقراطي إلى جانب لقاء قرنة شهوان والحزب التقدمي الإشتراكي ومنظمة العمل الشيوعي وشخصيات مستقلة كحبيب صادق والسيد هاني فحص ومن ثم أسّس وقاد حركة اليسار الديمقراطي اللذان ساهما في إندلاع ثورة الأرز بعد الإغتيال المدوّي للرئيس الشهيد رفيق الحريري. فأُخرِجَ الجيش السوري من لبنان بعد 15 عاماً على إتفاق الطائف وخمسة أعوام على إنسحاب العدو الإسرائيلي، وتم هذا الانسحاب على دماء شهداء وطنيين كبار تمسّكوا بموقفهم السيادي والمبدأي بدءا بكمال جنبلاط ورينيه معوض والمفتي حسن خالد ورفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي وجبران التويني ورفاقهم، وكانت تربط معظمهم بنديم علاقات صداقة متينة
بعد إنسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 تحوّل دور المقاومة الإسلامية من وسيلة لمقاومة الإحتلال الإسرائيلي (رغم اللغط الكبير الذي خلقته قضية مزارع شبعا بعد العام 2000) إلى الأداة التي استبدلت دور الأجهزة الأمنية السورية بهيمنة سلاح المقاومة وجهازه الأمني المدعوم إيرانياً. رغم ذلك، ساد إتجاه في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني وبعض القوى اليسارية للتحالف مع مشروع حزب الله المتحوّل من المقاومة إلى نظام أمني يُمسك بالحياة السياسية بقبضة من حديد، وهذا ما لم يوافق عليه نديم عبد الصمد إنطلاقاً من إنتمائه اليساري والعلماني الراسخ ونزعته الاستقلالية والديمقراطية.
بهذا المعنى يجب قراءة مسيرة نديم عبد الصمد وخياراته الوطنية المنسجمة مع قناعاته والتي منذ بدأها في أواخر أربعينات القرن الماضي وحتى وفاته كان مضمونُها دائما الاستقلالية والسيادة. ومن هذه المنطلقات يجبُ النظرُ إلى مواقفِه من الحزب الشيوعي الذي قضى ردحاً من عمره مناضلاً أميناً في صفوفِه وعلى أساسِها يفترض القيام بقراءةٍ متأنيّةٍ لمسيرةٍ حافلةٍ وإعادة النظر بالتموضعات الفكرية والسياسية للحزب في مرحلة أكثر ما تتطلبه هو تعزيز النزعة السيادية والاستقلالية وحماية الدولة من الهيمنة الأمنية والوصايات الخارجية على أنواعها.
هكذا دائما يرحل الكبار، يمشون بصمتٍ تاركين بصماتٍ واضحة وبرحيلهم تُطوى صفحةٌ تبقى منها عبرٌ للتأمّلِ وتجاربٌ للتعلّمِ.

Comments

Popular posts from this blog

نحو تجديد نبض الثورة (رسالة راس السنة 2020)

صحيفة العرب القطرية - اقتصاد :: شبكة المنظمات العربية تسعى لتعزيز الشفافية

المنطقة العربية: تحديات تتعاظم وتجاوب القيادة الرسمية لا يرتقي الى المستوى